آخر الأحداث والمستجدات 

نوستالجيا مكناسية

نوستالجيا مكناسية

جلست قاب قوسين من السور الاسماعيلي بباب كبيش ،أسندت ظهري بعزة على ماضي المدينة العتيد ،لحظة لاحت في مخيلتي مشاهد من الماضي، لا أخفيكم سرا فهي لم تتلون بألوان طيف الحرباء، بل اكتفت بالأبيض والأسود، إذا الأمر نوستالجيا ماضوية، ابتسمت لرؤية طفولتي  بمدينتي، وأنا أطوف حولها من محلة الزيتون إلى وادي ويسلان وعراصيه، حدائق الحبول، إلى ضفاف وادي بوفكران...كم كانت مديني خلابة المنبت  وجميلة الحدائق.

في عزة طوافي خبرت ذاتي عند تمام وقوفي بمحاذاة شجرة التوت بساحة باب الجديد قرب قبة "الشيخ الكامل " ، لم يمهلني شيخ لحيته البيضاء الممتدة الى صدره برده السلام علي، بل استطرد القول وطاردني بسؤال عن الزمان و مستجداته، لم أتمالك كلماتي وعيناي تنظران الأرض سيدي الفاضل زماني الحاضر تم تنكيسه عنوة، تم تحطينه بالتهميش والتضييق، أنا من أبناء المدينة، جدي الأكبر ارتوى من ماء الزيتون وتغذى من نعيم غلة ونعيم الأرض المعطاء ، خبرت الحياة الأولية بين باب كبيش والشراشر ودار المخزن "قصر ومتنزه عمة الملك الحسن الثاني رحمة الله عليهم أجمعين " لعبنا بمياه بوفكران سباحة، ثم تعلمنا أصول الدين بمسجد سيدي امبارك ...

استوقفني شيخي بضحكة لم ينفتح فيها فمه ،بل زاد الامر تعقيدا علي، وما أتى بك إلى محلة الشيخ الكامل ؟ نظرت إليه نظرة المتحسر وتلعثمت القول: سيدي الفاضل حسرتي على مدينتي حرقة، حيث ما حللت وارتحلت يطاردني الاسمنت والأجور ...ألمي على أهل مدينتي حرقة التهميش الاجتماعي ،الحكرة الاجتماعية للمواطن المكناسي ....بكائي على الهديم "الحفير " الذي اصبح لا يفارق شوارع مديني، حتى إنهم شكوا في وجود النفط بباب بوعماير. رفع الشيخ رأسه حامدا لله على هذا الفتح المبين الذي خيره سيعم الساكنة والوطن، ولكن الواقع ارجعه الى رشده . لم امهله الوقت بل اردفت ان امر ما هو إلا تسرب للنفط من المحطة الموجودة بباب بوعماير وهو ما عجل بإجلاء شركات التنقيب عن النفط عودة الى ديارها ، والشروع في ترميم الارصفة درا للرماد في الاعين ....

وبينما نحن في جدال القول بين الماضي المجيد للمدينة والحاضر البغيض الذي تعيشه المدينة ، مر موكب جنازة باتجاه المقبرة ، وهم في استعجال من امرهم ،تمتم الشيخ بكلمات لم افهم منها إلا الدعاء الاخير للميت ، وبما أن الجنازة تجاوزت مكاننا ، طوح الشيخ بتفكيري مرة ثانية ، وما أمر موتاكم ؟ تململت من مكاني مسافة قدم ثم قررت المكاشفة ولو بعيوبها ،الموت سيدي بمدينة مكناس حط رحله واستوطن المكان ،انه يسكننا فرادى وجماعات ،موت الضمائر ، فساد الأخلاق ، انسداد في افق التنمية، فالموت الحقيقي سيدي رحمة بالأحياء المقهورين من سلطة الحياة نحو مراقد المقابر، وحتى هي لم تسلم من جفاء الاحياء فأصبحت مراحيض بدون أداء.

وأنا أعايش الظرف الماضي وابحث عن حلول إجرائية للحاضر الضاغط بعودتي المكرهة اليه ، لاح أمامي طفل يركب قصبة وهو مزهو الحال ،شدني الامر جرا الى مفاتحته القول عن لعبته الحصان ،توقف امامي توقف الفارس الواثق من أمره ،مباغتا اياي بالقول انه أرفع حصان بالمدينة ، ابتسمت لقوله ،ثم سألته عن اسمه . فكر للأمر لان ذلك يستدعي الوثوق ،ثم اجابني بأنه حصان اقتطعه ابوه من اعلى قصبة من قصر المنصور بالروى ، كنت مدركا ان القصب لم يعد له وجود بالروى إلا ما قرب من المصلى ، ثم أردفت القول اليه الحمد لله الذي ابتدل الجياد بالقصب .لم يفهم من قولي إلا حسرة ماثلة في ملامحي. لم يمهله اخوه الطالب المعطل بل ضحك على لعبة اخيه الصغير بنبرة تهكمية ، انتبه اياك ان تسقط منه . ضحكنا جميعا ، وفتحت عليه ليلة القدر كي ينفس عن نفسه حسرة البطالة والكفاف الاجتماعي المكناسي . شحذ لسانه على المعارضة والحكومة والوسط ، ثم تلا كلامه بالعولمة التي اصابت الاقتصاد الوطني والمكناسي بالركود كأنها تسونا مي مدمر . لم اكن انصت اليه فكلامه للمرة المائة قد شنف مسامعي ، لكني كنت اتابع الطفل الصغير في رغبته لفهم ما يجري في الحاضر ...في الوقت نفسه نادت الام على طفلها ملحة عليه ان يترك القصبة ، لكنه تنطع مع قصبته ورد على امه ان حصانه القصبة هو المنقذ من تسونامي العولمة الغول الاتي ، في الحقيقة لم تفهم الام ولا الطفل اي دلالة من الكلمات ، وإنما زادت من حدة نبرة صوتها لطفلها بطاعة الامر ...كنت اتابع الامر لاني لا اجد ما انشغل به إلا إسناد ظهري على السور الاسماعيلي وكأنني اسانده من تداعيات الحث الزمني ،اقترحنا على الطفل حلا وسطا وهو ان يترك حصانه تحت رعايتنا الى ان يعود، رغب بالأمر مترددا ولكنه فضله بدل ضياع قصبته الحصان في ظل النشل والسرقة المستشرية بالمدينة .

وبينما نحن قعود لاحت لنا بلغة الحاج كريشة ألقى بتحية نصفها تهكم عن المكان ،ما لكوم شدين السور واش خايفين يطيح؟

نظر الي الطالب المعطل وسألني عن حال "كوديم" لم أمهله بتمام كلامه بل اجبته بأن كلشي عندنا في مكناس طايح و مايل...استغرب الحاج بوكريشة الأمر وأراد أن يدلي بدلوه في النقاش، وماذا حل بالكوديم ؟ فرحت أقص عليه قصة الفريق المكناسي في الأيام الخوالي"عبد الوهاب / لشعل /الديدي/ لغوني وإخوته /الحسين...." وكيف كان الفريق يصول ويجول في البطولة، كنت مدركا أن مخاطبي لا يفهم من الكرة إلا الخير والإحسان، ولكني آثرت الإطناب في القول حتى يمل من أمر سماع قصة الكوديم والنزول إلى أسفل الدرك.

وفي تمادي في الشرح بادرني الحاج بوكريشة القول ،ومن كان سببها حتى تخلفت عن الركب؟

لا أخفيكم سادتي الكرام الامر فكنت انتظر مثل هذا السؤال، فسارعت في الجواب: ليس هناك سبب واحد بل هناك أسباب متعددة جعلت المدينة تخلف موعدها مع الانطلاقة التنموية، إنه التسيير السياسي للمدينة ،إنه النكوص الاقتصادي بالمدينة، إنه الاختناق الاجتماعي لأهالي مكناس، إنه ناهبو المال العام ...أحس الحاج بوكريشة أن الأمر بدا يخرج عن السيطرة، والتلميح يصيبه فجر بلغته تاركا وراءه الغبار المخيم على سماء المدينة...

ونحن نتداول امر سقوط المدينة وفريقها إلى مرتبة الهواة ضمن المنظومة الوطنية، صدح الأذان معلنا وقت الصلاة ...تركت مكاني، ورفيقي المعطل يرغد بالسب والدعاء البغيض لمن كانت له اليد الطولى في ترك المدينة تعيش الكفاف والنكوص نحو البداوة. ثم توجهت إلى الجامع لعل الله يفك عن المدينة نحسها الساخط.....

جميع الحقوق محفوظـة © المرجو عند نقل المقال، ذكر المصدر الأصلي للموضوع مع رابطه.كل مخالفة تعتبر قرصنة يعاقب عليها القانون.
الكاتب : محسن الأكرمين
المصدر : هيئة تحرير مكناس بريس
التاريخ : 2013-08-30 12:04:42

 تعليقات الزوار عبر الفايسبوك 

 إعلانات 

 صوت و صورة 

1  2  3  4  5  6  7  8  9  المزيد 

 إعلانات 

 إنضم إلينا على الفايسبوك